الفصــل الثالث

1334-1357

 

مقدمة:

 

ثارت رائحة النفط التي كانت تفـوح مـن منطقة الخليج وشواطئه شهية المستغلين ، وحركت رغبات الطامعين في خيرات الشعوب وثرواتها. وفي مطلع القرن العشرين أصبح لبريطانيا اليد الطولي في الخليج العربي وخصوصا بعد أن صفت الوجود العثماني ، ونصبت مندوبوها حكاما فعليين علي إماراته.

طبقت بريطانيا سياسة التعليم المبتور في مناطق تابعة لها كالهند وفي بعض البلاد العربية كمصر والسودان وفلسطين والعراق وهي سياسة تعليم النخبة لتخريج موظفين لخدمة الإدارة البريطانية ... وحتى هذه السياسة لم تطبقها في الخليج العربي، وكانت تستقدم جميع موظفيها وعمالها الفنيين من مستعمراتها خارج منطقة الخليج وخصوصا من الهند ، مستبعدة أبناء البلاد عن تولي أي وظيفة عامة في بلادهم.

لم يكن التعليم بأوفر حظا من باقي نواحي الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعمرانية ، ولهذا لم ينل من عنايتها كثيرا ولا قليلا ، لأن بريطانيا العظمي التي تشدق ساستها برسالتهم الاستعمارية التي هي جزء من رسالة الرجل الأبيض إلي البلدان المتخلفة المحرومة من حضارة القرن العشرين ، ولم تكلف نفسها أن تفكر مجرد تفكير في مد يد العون إلي أهالي هذه المنطقة التي آل إليها زمام الأمور فيها ، بإتاحة أي فرصة من فرص التعليم لأبنائها ، واستمرت سياسة التجهيل التي كانت سائدة أيام الحكم التركي للعالم العربي.(1)

 

التعليم في قطر:

كانت قطر قبل مطلع القرن العشرين بقليل أوفر حظا من باقي إمـارات الخليج ، وذلك مـن حيث كثرة عـدد الكتاتيب ففي سنة 1308 هـ (1890م) في عهد الشيخ قاسم بن محمد آل ثاني بلغ عدد الكتاتيب عشرة كتاتيب تدرس فيها القراءة والكتابة والقرآن الكريم.(2)

كما عرفت كذلك مدرسة نظامية هي المدرسة الراشدية التي كانت تدرس فيها العلوم الإسلامية علي طريقة التدريس في المدارس العثمانية ، وكانت مؤلفة من ثلاثة صفوف ابتدائية وثلاثة متوسطة. وكان حضور هذه المدارس (الكتاتيب) عاما لكل الأطفال من الجنسين حتى سن العاشرة دون تفرقة ، حيث يتلقون في هذه الكتاتيب تعليم القرآن ، ومبادئ الإسلام الأولية.

وكان الأطفال مابين بنات وأولاد يجتمعون في بيت المطوع أو المطوعة لدراسة القرآن الكريم ، حيث يبرز بينهم الذكي الذي يختم القرآن ، فإذا ختم القرآن امتحنه معلمه شهرا كاملا حتي يتأكد من إتقانه للتلاوة تلاوة ممتازة ، وعندها يتسلم المعلم الجائزة غير الأجر ، وكان الأجر يختلف باختلاف حالة الأفراد المادية.

فإذا حفظ الولد اجتمعوا في بيت المعلم واختاروا تلميذا وكلفوه بحفظ أنشودة تسمي " التحميدة" ويقوم بالإنشاد والأطفال يرددون من بعده مايلي:

الحمــد لله الذي هـدانا للـدين والإســـلام واجتبانا

سبحانه من خالق سبحانه بفضـله علـمنا القــــرآنا

نحمده وحقه أن يحــمدا حمـدا كثيرا ليس يحصي عددا

طوال الليالي والزمان سرمدا واشـهد بأن الله فــردا واحدا

 

آمــــين

ياولدي انظــروا في حالي لقد أتتكم عصبة الرجــال

فبيضوا وجهـي ببذل المال ووجــهنا يلمع كالهــلال

 

كمطلع الشمس علي الجبال

 

آمــــين

 

أما تعلم الكتابة والقراءة في الكتب العربية والأشعار الأدبية فإن ذلك لايتسني للفتي إلا بعد انتهائه من دراسة القرآن الكريم (3)

 

أما النوع الآخر من الكتاتيب فقد كان أكثر تقدما ، حيث كانوا يعلمون فيه اللغة العربية والقرآن ، والحساب إضافة إلي مبادئ الإسلام ، وقد كان تعليم اللغة العربية والحساب مقتصرا علي الأطفال من العائلات الغنية وخاصة الأولاد، وكان وجود هذا النوع من الكتاتيب نادرا ، ويتوفر عـادة في الدوحـة والمدن الكبيرة فقط .

وكان الكتاب يحتوي علي غرفة واحدة مؤثثة ببساط أو حصائر صغيرة للأطفال ، وآخر خاص للمطوع ، والبعض يبني لنفسه مظلة من الخوص وجريد النخل ويفرش تحته حصيرا، وكان يقوم بالتدريس فيها( المطوع) أو (الملا) ، وفي الدوحة كان هناك كتاب المـلا حبيب ، والملا سالم ، وفي القري الملا إبراهيم والملا الأنصاري.(4)

ويقسم المطوع التلاميذ إلي مجموعات بحسب مستوياتهم الدراسية فمنهم المبتدئ ومنهم المتوسط ومنهم الجيد الذي شارف علي ختم القرآن "تلاوة" والأجزاء الثلاثة الأخيرة "حفظا" ، ويختار المطوع أذكي الطلاب في كل مجموعة وأقواهم شخصية وأكثرهم تحصيلا ليعينه عريفا علي المجموعة اللاحقة لمجموعته ، أي أن لكل مجموعة عريفا من المجموعة التي تعلوها عدا المبتدئين.

ونفقات التعليم في الكتاب كانت تتمثل في راتب المطـوع الشهري ، وإيجار قاعة الدرس التي لم تكن تمثل مشكلة حيث كان الدرس يجعل في المسجد أو في أحد المجالس التي عادة ما يتبرع بها أحد الوجهاء، والكتب والأدوات المدرسية . وكان يتكفل بنفقات هذه الكتاتيب في العادة أحد الشيوخ أو الأثرياء ، وقد يتعاون أكثر من واحد في تكاليف كتاب واحد فيدفع أحدهم أجر المطوع ويقدم الثاني قاعة الدرس والكتب التي كانت تستورد من البلدان المجاورة كالبحرين مثلا

ومن الكتاتيب التي تمـيزت في تلك الفترة ثلاثة كتاتيب هي :

- مدرسة الشيخ الرحباني والشيخ ابن حمدان (من نجد) وكانت بالدوحة لتعليم القرآن الكريم ، وأصول الدين وبعض مباديء العربية.

 

- مدرسة الشيخ محمد الجابر من أهالي قطر تأسس 1900م لتعليم نفس الموضوعات، وبعض النحو العربي.

 

- مدرسة الشيخ حامد الأنصاري من أهالي قطر أيضا.

 

وبالإضافة إلي أبناء قطر في هذه الكتاتيب فقد اجتذبت بعض أبناء الإمارات المجاورة ، وكان يتحمل نفقات تعليمهم وإقامتهم في قطر بعض المحسنين الأثرياء من أهالي إماراتهم.(5)

 

الشيخ عبد الله بن جاسم آل ثاني والتعليم:

تولي الشيخ عبد الله بن جاسم آل ثاني الحكم في البلاد خلفا لوالده ، وقد ورث حب العلم والعلماء ومجالس الأدب والفقه واقتناء الكتب عن الوالد والجد ، رأي الشيخ عبد الله أنه لايمكن أن تستقيم أمور الحكم في البلاد مع جهل من الممكن أن يعيق أي مظهر من مظاهر التنمية أو التقدم الذي يحلم بتحقيقها لوطنه ومواطنيه، وعملا بقول الشاعر*:

 

كفي قلم الكتّاب مجدا ورفعة مدي الدهر أن الله أقسم بالقلم

 

كان الشيخ عبد الله يؤمن تماما بأن الجهل هـو ألد أعداء التقدم والرقي ، وأن البلاد لا يمكنها اللحاق بركب الحضارة والعلا إلا بالعلم والمعرفة ، فسعي لاستقــدام من يراه أهلا لهذه المهمة مــن العلماء . . وصدق علي بن أبي طالب:

 

" إذا رأيت العلماء علي أبواب الملوك فقل بئس الملوك وبئس العلماء ، وإذا رأيت الملوك علي أبواب العلماء فقل نعم الملوك ونعم العلماء".

 

كان شيخنا بن مانع مقيمـا في البحـرين مـنذ أواخــر 1330 هـ ، واشتهرت مجالسه في مساجدها ودروسه في النادي الإسلامي ، وصلت أخبار الشيخ محمد المانع إلي الشيخ عبد الله بن جاسم آل ثاني الذي وجد مبتغاة في شخصية الشيخ محمد المانع وأنه أصلح من يقوم بما يريد للتعليم والقضاء في قطر .

 

تم الاتصال بالشيخ المانع ودعوته للحضور إلي قطر، وبعد أن تمت تسوية الأمور مع الشيخ علي المحمود في الشارقة علي يد الشيخ عبد الله بن جاسم بشكل رضي ورحب به الجميع ، ولأن ذلك كله كان مقدرا فقد لبي شيخنا الدعوة ، وتوجه الشيخ المانع إلي قطـر في شهر شوال سنة 1334هـ .(6)

 

ما أن استقر الشيخ محمد المانع في قطر أوكل إليه الشيخ عبد الله بن جاسم إنشاء مدرسة بالدوحة، وقد تولي الشيخ المانع القضاء والخطابة وبعض الدروس في المساجد في بادئ الأمر ، ثم أخذ في تنظيم وافتتاح مدرسة بالدوحة.

 

كانت لقاءات الشيخ عبد الله بن جاسم بالشيخ المانع ، هي التي حددت للأخير شكل المـدرسة، ومناهجها وطـريقة التدريس بها ، فقد وجد ابن مانع في الشيخ عبد الله نموذج الحاكم الواعي الطموح، بفكر متنور وثقافة موروثة من الجد والوالد العظيمين، ولسان فصيح ببلاغة واضحة ، وتفكير منطقي ويظهر ذلك جليا في مكاتباته ومراسلاته مع المقيمين السياسيين البريطانيين في بوشهر والبحرين(7).

 

أخذ الشيخ المانع في ترتيب أمور مدرسة متطورة عن الشكل التقليدي الذي يقترب كثيرا من الكتاتيب ، وفي نفس الوقت ترضي طموح حاكم بثقافة وحكمة الشيخ عبد الله بن جاسم، وكان ذلك متمثلا في "المدرسة الأثرية"، التي كانت تعد مدرسة نموذجية في ذلك الوقت. وقد التحق بهذه المدرسة عدد كبير من الطلبة القطريين ، ومن طلبة الشارقة ونجد والكويت وإيران بدعوة من الشيخ محمد المانع ، وفي قطر كان عدد الذين تخرجوا من المدرسة قليلا جدا، ولكن كان مستواهم العلمي الإسلامي عاليا، ولعب معظمهم دورا أساسيا في حياة قطر المعاصرة(8)

 

 

 

 


 

 * أبو الفتح البستي

 


 

 

(1) كمال ناجي : تاريخ التعليم الشعبي في قطر ص 507-508

(2) قطر وزارة التربية والتعليم : التعليم في دولة قطر في القرن العشرين ص 19

(3) يوسف عبد الرحمن الخليفي : التحفة البهية في الآداب والعادات القطرية ط2 .— الدوحة : 1986 ص 101-102

(4) التاريخ الاجتماعي للمرأة القطرية المعاصرة : عادل حسن غنيم... وآخ الدوحة : 1989 ص 120-121

(5) كمال ناجي ت: تاريخ التعليم الشعبي في قطر... ص 511-513

(6) عبد الرحمن بن عبد اللطيف بن عبد الله آل الشيخ: مشـاهير علمـاء نجـد وغيرهم ص 414

(7) قطر وثروتها النفطية .- الدوحة : مؤسسة العهد ، 1984 ص 217

 ( أنظر أيضا صور المكاتبات في Ruling Families of Arabia - Qatar P 211, 259 , 515)

 (8) يوسف إبراهيم العبد الله .- تاريخ التعليم في الخليج ص 308